دار الزهراء (عليها السلام) الثقافية - دار الزهراء (عليها السلام) الثقافية

غموض معاني القرآن

إن في القرآن معاني شامخة، ومطالب غامضة، واشتماله على ذلك يكون مانعاً عن فهم معانيه، والإحاطة بما أريد منه، فإنا نجد بعض كتب السلف لا يصل إلى معانيها إلا العلماء المطّلعون، فكيف بالكتاب المبين الذي علم الأولين والآخرين. والجواب: إن القرآن وإن اشتمل على علم ما كان وما يكون، وكانت معرفة هذا من القرآن مختصة بأهل بين النبوة من دون ريب، ولكن ذلك لا ينافي أن للقرآن ظواهر يفهمها العارف باللغة وأساليبها، ويتعبد بما يظهر له بعد الفحص عن القرائن. العلم بارادة خلاف الظاهر: إنا نعلم_ إجمالاً_ بورود مخصصّات لعمومات القرآن، ومقيدات لإطلاقاته، ونعلم بأن بعض ظواهر الكتاب غير مراد قطعاً، وهذه العمومات المخصّصة، والمطلقات المقيّدة، والظواهر غير المرادة ليست معلومة بعينها، ليتوقف فيها بخصوصها. ونتيجة هذا أن جميع ظواهر الكتاب وعموماته ومطلقاته تكون مجملة بالعرض، وإن لم تكن مجملة بالأصالة، فلا يجوز أن يعمل بها حذراً من الوقوع فيما يخالف الواقع. والجواب: إن هذا العلم الإجمالي إنما يكون سبباً للمنع عن الأخذ بالظواهر، إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد، وأما بعد الفحص والحصول على المقدار الذي علم المكلف بوجوده إجمالاً بين الظواهر، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي، ويسقط عن التأثير، ويبقى العلم بالظواهر بلا مانع. ونظير هذا يجري في السنة أيضاً، فإنا نعلم بورود مخصّصات لعموماتها ومقيدات لمطلقاتها، فلو كان العلم الإجمالي مانعاً عن التمسك بالظواهر حتى بعد انحلاله لكان مانعاً عن العمل بظواهر السنّة أيضاً، بل ولكان مانعاً عن أجراء اصالة البراءة في الشبهات الحكمية، الوجوبية منها والتحريمية، فإن كل مكلف يعلم بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدسة، ولازم هذا العلم الإجمالي وجوب الإحتياط عليه في كل شبهة تحريمية، أو وجوبية يقع فيها مع أن الإحتياط ليس بواجب فيها يقيناً. نعم ذهب جمع كثير من المحدّثين إلى وجوب الإحتياط في موارد الشبهات التحريمية، إلا أنّ ذلك نشأ من توهّمهم أن الروايات الآمرة بالتوقّف أو الاحتياط تدّل على وجوب الاحتياط والتوقف في موارد تلك الشبهات. وليس قولهم هذا ناشئاً من العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزامية في الشريعة المقدسة، وإلا لكان اللازم عليهم القول بوجوب الإحتياط حتى في الشبهات الوجوبية، مع أنه لم يذهب إلى وجوبه فيها أحد فيما نعلم. في عدم وجوب الإحتياط في هذه الموارد وفي أمثالها واحد، وهو أن العلم الإجمالي قد يسبّب الظفر بالمقدار المعلوم، وبعد انحلاله يسقط عن التأثير. ولتوضيح ذلك يراجع كتابنا «أجود التقريرات». المنع عن اتباع المتشابه: إن الآيات الكريمة قد منعت عن العمل بالمتشابه، فقد قال الله تعالى: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ» والمتشابه يشمل الظاهر أيضاً، ولا أقل من احتمال شموله للظاهر فيسقط عن الحجية. الجواب: إن لفظ المتشابه واضح المعنى ولا إجمال فيه ولا تشابه، ومعناه أن يكون للّفظ وجهان من المعاني أو أكثر، وجميع هذه المعاني في درجة واحدة بالنسبة الى ذلك اللفظ، فإذا أطلق اللفظ احتمل في كل واحد من هذه المعاني أن يكون هو المراد، ولذلك فيجب التوقف في الحكم إلى أن تدل قرينة على التعيين، وعلى ذلك فلا يكون اللفظ الظاهر من المتشابه. ولو سلمنا أن لفظ المتشابه متشابه، يحتمل شموله للظاهر، فهذا لا يمنع عن العمل بالظاهر بعد استقرار السيرة بين العقلاء على اتباع الظهور من الكلام، فإن الإحتمال بمجرده لا يكون رادعاً عن العمل بالسيرة، ولا بد في الردع عنها من دليل قطعي، وإلا فهي متبعة من دون ريب، ولذلك فإن المولى يحتج على عبده إذا خالف ظاهركلامه، ولذلك فإن المولى يحتج على عبده إذا خالف ظاهر كلامه، ويصح له أن يعاقبه على المخالفة، كما أن العبد نفسه يحتج على مولاه إذا وافق ظاهر كلام مولاه وكان هذا الظاهر مخالفاُ لمراده. وعلى الجملة فهذه السيرة متّبعة في التمسك بالظهور حتى يقوم دليل قطعي على الردع. وقوع التحريف في القرآن: إن وقوع التحريف في القرآن، مانع من العمل بالظواهر، لاحتمال كون هذه الظواهر مقرونة بقرائن تدل على المراد، وقد سقطت بالتحريف. والجواب: منع وقوع التحريف في القرآن، وقد قدمنا البحث عن ذلك، وذكرنا أن الروايات الآمرة بالرجوع إلى القرآن بأنفسها شاهدة على عدم التحريف، وإذا تنزلنا عن ذلك فإن مقتضى تلك الروايات هو وجوب العمل بالقرآن، وإن فرض وقوع التحريف فيه. ونتيجة ما تقدم أنه لابدّ من العمل بظواهر القرآن، وأنه الأساس للشريعة، وأن السنة الحكمية لا يعمل بها إذا كانت مخالفة له.