دار الزهراء (عليها السلام) الثقافية - دار الزهراء (عليها السلام) الثقافية

تتمة البحث السابق

وإذا كان هذا حال النساء في جمع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟ وقد عدّ من حفاظ القرآن علي عهد رسول الله(ص) جمّ غفير. قال القرطبي: «قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء، وقتل في عهد النبي(ص) ببئر معونة مثل هذا العدد»(1). وقد تقدم في الرواية «العاشرة» أنه قتل من القرّاء يوم اليمامة أربعمائة رجل علي أن شدة اهتمام النبي(ص) بالقرآن، وقد كان له كتّاب عديدون، ولا سيما أن القرآن نزل نجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة، كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي(ص) كان قد أمر بكتابة القرآن علي عهده. روي زيد بن ثابت، قال:«كنا عند رسول الله(ص) نؤلف القرآن من الرقاع». قال الحاكم:«هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرّجاه» وفيه الدليل الواضح: أن القرآن إنما جمع علي عهد رسول الله (2). وأما حفظ بعض سور القرآن أو بعض السورة فقد كان منتشراً جداً، وشذ أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين. روي عبادة بن الصامت قال: «كان رسول الله(ص) يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر علي رسول الله(ص) دفعه إلي رجل منّا يعلمه القرآن»(3). وروي كليب، قال: «كنت مع علي(ع) فسمع ضجتهم في المسجد يقرؤون القرآن، فقال: طوبي لهؤلاء...»(4).

وعن عبادة بن الصامت أيضاً: «كان الرجل إذا هاجر دفعة النبي(ص) إلي رجل منا يعلّمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله (ص) ضجة بتلاوة القرآن، حتي أمرهم رسول الله أن يخفّضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا»(5). نعم إن حفظ القرآن ولو ببعضة كان رائجاً بين الرجال والنساء من المسلمين، حتي أن المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة القرآن أو أكثر(6) ومع هذا الإهتمام كله كيف يمكن أن يقال: إن جمع القرآن قد تأخر إلي زمان خلافة أبي بكر، وإن أبابكر احتاج في القرآن إلي شاهدين يشهدان أنهما سمعا من رسول الله(ص).

مخالفة أحاديث الجمع للاجماع:

 إن هذه الروايات محالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أن القرآن لاطريق لإثباته إلا التواتر، فإنها تقول: إن إثبات آيات القرآن حين الجمع كان منحصراً بشهادة شاهدين، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين، وعلي هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضاً، وهل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك؟ ولست أدري كيف يجتمع القول بصحة هذه الروايات التي تدل علي ثبوت القرآن بالبينة، مع القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، أفلا يكون القطع بلزوم كون القرآن متواتراً سبباً للقطع بكذب هذه الروايات أجمع؟ ومن الغريب أن بعضهم كابن حجر فسر الشاهدين في الروايات بالكتابة والحفظ (6). وفي ظني أن الذي حمله علي ارتكاب هذا التفسير هو ما ذكرناه من لزوم التواتر في القرآن. وعلي كل حال فهذا التفسير واضح الفساد من جهات: أما أولاً :فلمخالفته صريح تلك الروايات في جمع القرآن، وقد سمعتها. وأما ثانياً: فلأن هذا التفسير يلزمه أنهم لم يكتبوا ما ثبت أنه من القرآن بالتواتر، إذا لم يكن مكتوباً عند أحد، ومعني ذلك أنهم أسقطوا من القرآن ما ثبت بالتواترأنه من القرآن. وأما ثالثا: فلأنّ الكتابة والحفظ لا يحتاج اليهما إذا كان ما يراد كتابته متواتراً، وهما لا يثبتان كونه من القرآن، إذا لم يكن متواتراً. وعلي كل حال فلا فائدة في جعلهما شرطاً في القرآن. وعلي الجملة لابد من طرح هذه الروايات، لأنها تدل علي ثبوت القرآن بغير التواتر، وقد اتّضح بطلان ذلك بإجماع المسلمين.

1- الاتقان:1/122،النوع20، وقال القرطبي في تفسيره:1/59:وقتل منهم «القرّاء» في ذلك اليوم «يوم اليمامة» فيما قيل سبعمائة.

2- سنن الترمذي: كتاب المناقب، رقم الحديث:3889. ومسند احمد: مسند الانصار، رقم الحديث:20622.

3- مسند أحمد:5/325، كتاب باقي مسند الانصار، رقم الحديث:21703.

4- كنز العمال:2/185، الطبعة الثانية. فضائل القرآن.

5- مناهل العرفان:ص324.

6- رواه الشيخان، وأبو داود والترمذي والنسائي. التاج:2/332.

 7- الاتقان:ص100، النوع18.