دار الزهراء (عليها السلام) الثقافية - دار الزهراء (عليها السلام) الثقافية

تتمة البحث السابق

إن الدين أعم من الأصول والفروع، وذكر الكفر والإيمان بعد ذلك ليس فيه دلالة على الإختصاص بالأصول فقط، وإنما ذلك من قبيل تطبيق الكبرى على صغراها، ومما فيه أن الإكراه بحق كان ثابتاً في الشرع الإسلامي من أول الأمر على طبق السيرة العقلانية، وأمثلته كثيرة، فمنها إكراه المديون على أداء دينه، وإكراه الزوجة على إطاعة زوجها، وإكراه السارق على ترك السرقة، إلى أمثال ذلك فكيف يصح أن يقال: إن الإكراه في الشريعة الإسلامية لم يكن في زمان. إن تفسير الإكراه في الآية بالمعنى الأول (ما يقابل الرضا) لا يناسبه قوله تعالى: «قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» الا بأن يكون المراد بيان على الحكم، وان عدم الإكراه إنما هو لعدم الحاجة إليه من جهة وضوح الرشد وتبيّنه من الغي، وإذا كان هذا هو المراد فلا يمكن نسخة، فإن دين الإسلام كان واضح الحجة، ساطع البرهان من أول الامر، إلا أن ظهوره كان يشتد شيئاً فشيئاً، ومعنى هذا أن الإكراه في أواخر دعوة النبي (ص) أحرى بأن لا يقع لأن برهان الإسلام في ذلك العهد كان أسطع، وحجته أوضح، ولما كانت هذه العلة مشتركة بين طوائف الكفار، فلا يمكن تخصيص الحكم ببعض الطوائف دون بعض، ولازم ذلك حرمة مقاتلة الكفار جميعهم، وهذه نتيجة باطلة بالضرورة. فالحق: أن المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الإختيار، وأن الجملة خبرية لا إنشائية، والمراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الآيات القرآنية كثيراً، من أن الشريعة الإلهية غير مبتنية على الجبر، لا في أصولها ولا في فروعها، وإنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، كما قال تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» وحاصل معنى الآية أن الله تعالى لا يجبر أحداً من خلقه على إيمانٍ ولا طاعة، ولكنه يوضح الحق و يبينه من الغي، وقد فعل ذلك، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار، ومن اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار والله سبحانه وإن كان قادراً على أن يهدي البشر جميعاً – ولو شاء لفعل- لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير مجبورين على أعمالهم، بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل، فقد قال عز من قائل: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ».